استخدام لينكس والبرمجيات مفتوحة المصدر مطلب أممي وليس شخصي فقط

كثيرًا ما يسمع الفرد عن مميزات نظام لينكس وتوزيعاته، أو مميزات البرمجيات مفتوحة المصدر (Open Source Software) عمومًا، وكل هذا جميل ويؤخذ بعين الاعتبار عندما يتخذ الفرد قراره بالانتقال من ويندوز وبقية البرمجيات الاحتكارية إليها.

لكن هناك جانبٌ مسكوتُ عنه حول استخدام هذه البرمجيات، وهو أنه يجب على الدول بأكملها الانتقال إليها كذلك، وليس فقط الأفراد. وانتقال هذه الدول إلى استعمال هذه البرمجيات مطلب أممي ضروري جدًا للاستقلال التقني لتلك الأمة، وليس فقط من باب توفير التكاليف والفوائد التقنية وما شابه ذلك.

تشغيل البنية التحتية التقنية دون الحاجة للغرب والشرق

تستعمل معظم الحكومات حول العالم نظام ويندوز من شركة مايكروسوفت لأداء مهامها اليومية. لكن فكّر ماذا لو قررت مايكروسوفت يومًا ما قطع التعامل مع دولتك وإيقاف كل تراخيص البرمجيات معها؟

إن نظام ويندوز يعتمد على تراخيص البرمجيات لكي يعمل، ومن دونها، قد لا تتمكن من استخدام بعض المميزات في النظام أو قد تتوقف عن الحصول على التحديثات من الشركة، وهذه معضلة لأن التحديثات عملية أساسية لنظام ويندوز.

تشمل التحديثات إصلاحاتٍ وترقيعات للثغرات الأمنية التي قد تكون بنظام التشغيل أو أحد برامجه، وإيقاف الشركة الأم للتحديثات ومنعها عن دولتك يعني أنها عمليًا قد حكمت عليك بالتوقف عن استخدامه، لأنه ليس بمقدورك الاعتماد على جهة أخرى لتوفير هذه التحديثات، لأن النظام مغلق المصدر ولا يمكن لأحد تحديثه سوى الشركة الأم.

سيؤدي هذا إلى معضلة أكبر: الدوائر الحكومية والمستشفيات ومراكز الأمن ومراكز الغذاء والمصانع… كلها قد تتوقف فجأة فقط لأن نظام التشغيل لم يعد يعمل كما في السابق، أو لأن أحدًا نجح في اختراقه لاستخدام نظام ويندوز غير محدّث.

بالطبع، تبقى هناك إمكانية أن تستعمل نسخ ويندوز مقرصنة على مختلف الأجهزة داخلة الدولة، لكن هذا الحل غير عملي ببساطة لأن نظام التشغيل سيبقى عرضةً للاختراق لأنه غير محدّث، كما أنه مع مرور الوقت سيضعف هذا النظام ويحتاج تحسينات للأداء لجعله يعمل مع العتاد الحديث أو لتشغيل البرامج والمميزات الجديدة التي قد ترغب فيها. (ولا تظنن أن استخدام إصدار ويندوز قديم غير محدّث من دون اتصال بالإنترنت لن يكون مشكلة، لأن هذه الأجهزة تتناقل الملفات والمستندات بين المواطنين والموظفين عن طريق فلاشات USB أو غيرها من الوسائط، وبالتالي هي ما تزال عرضة للاختراق).

ولا ينحصر الأمر بمايكروسوفت أو الغرب عمومًا؛ بل حتى الاعتماد على العتاد الصيني أمرٌ غير مقبول لتأمين البنية التحتية التقنية، لأن تلك الدولة – وأي دولة – قد تقطع تعاملها معك لأي سبب سياسي وبالتالي بنيتك التحتية التقنية كلها مرهونة بالسياسة الجيدة مع هذه الدول. وهذه حالة انسحاق تقنية يجب ألا تصل إليها أي دولة.

في لينكس والبرمجيات مفتوحة المصدر الوضع مختلف؛ يمكنك بسهولة – بل لأي مستخدم عادي كذلك – أن يصنع مستودعات البرمجيات الخاصة به ويضيفها للنظام ويحدّثه كيفما شاء، بل قد يصنع مرآة مستودعات (Repository Mirror) يمكنها أن تجلب جميع حزم البرمجيات والتحديثات من الخارج وتستضيفها على خادوم محلي داخل الدولة. كما أن كون النظام مفتوح المصدر يعني أنه بإمكانك فعل أي شيء به حسب احتياجاتك.

هكذا تكون البنية التحتية التقنية بالكامل تحت سيطرة الدولة ولا تحتاج شيئًا من الخارج لتشغيلها.

التخلص من إمكانيات التجسس

من أبرز مميزات البرمجيات مفتوحة المصدر هو أن الشفرة المصدرية للبرنامج قابلة للمعاينة والرؤية، وبالتالي يمكن لأي مبرمج أن يتحقق من خلو البرنامج من برمجيات التجسس أو البرمجيات الخبيثة التي قد تكون موجودةً فيه.

يرسل نظام ويندوز 10 أطنانًا من البيانات عن جميع المستخدمين إلى خواديم الشركة الأم، وبالطبع تقول الشركة أنها بيانات غير حساسة ولا تتضمن بيانات المستخدم، لكن من يعلم؟ وأين وكيف ستستخدم هذه البيانات؟ كل ذلك مجهول لأن النظام مغلق المصدر.

ولا ينطبق هذا على ويندوز فقط بل جميع البرمجيات الاحتكارية كذلك؛ لا تضمن ألا يكون فيها برمجيات تجسس مخفية لا تعرفها وهذا لأنك لا تمتلك الوصول إلى الشفرة البرمجية. بينما إن كان الشفرة البرمجية متوفرة فيمكنك فحص البرنامج ثم بناؤه من المصدر دون الحاجة للاعتماد على موثوقية وصدق أحد.

وقد تكون في تلك البرمجيات ثغرات خفية يعرفها مطورو تلك البرمجيات أو قد تتعاون مع مراكز الاستخبارات الغربية لبيعها لهم كذلك، وبالتالي يصبح للقوى الغربية القدرة على اختراق أي دولة بسبب كونها تعتمد على برمجيات مليئة بالثغرات الأمنية المعروفة لديهم.

انظر مثلًا إلى خدمات شركة Zerodium؛ تشتري الثغرات الأمنية التي يكتشفها الباحثون الأمنيون من مختلف دول العالم في البرمجيات، ثم بدلًا من إصلاحها في تلك البرمجيات للناس، تقوم ببيعها لمختلف الدول ووكالات التجسس والأمن القومي حول العالم بهدف كسب المال.

تطوير الخبرات التقنية المحلية

الانتقال إلى البرمجيات مفتوحة المصدر ونظام لينكس على مستوى الدول ليس عمليةً سهلة، بل يحتاج لمتخصصين ومهندسي برمجيات للقيام به على أكمل وجه.

سيعني هذا أنه على الدولة التي تريد الانتقال إلى هذه البرمجيات العمل على صنع خبرات محلية قادرة على إجراء عملية الانتقال هذه – إن لم تكن لديها بالفعل – ويكون هذا عبر:

  • توفير منح ودعم مادي لمن يتخصص في دراسة علوم الحاسوب وهندسة البرمجيات.
  • توفير الوظائف الجاهزة لمن يتخرج من التخصصات التقنية في الدولة.
  • إنشاء المراكز البحثية ومراكز إدارة العمليات التقنية لإجراء عمليات الانتقال.
  • التخلص من أي عمليات وعقليات بيروقراطية قد تعيق العملية.

كل ما سبق سيقود على المدى البعيد إلى إنشاء طبقة من المهندسين والمتخصصين التقنيين القادرين على تنفيذ الكثير من المشاريع التقنية العملاقة. مشاريع يمكن أن تكون أكبر من مجرد نقل البلاد إلى استخدام البرمجيات مفتوحة المصدر، بل قد تكون مثل تطوير تطبيقات أو شبكات أو أنظمة مختلفة قد تحتاجها تلك الدولة في أعمالها.

بعدها، يمكن أيضًا تصدير هذه الخبرات والتجارب للخارج والاستفادة منها، فتصبح هذه الدولة هي التي تنقل الدول الأخرى إلى البرمجيات مفتوحة المصدر إن أرادت ذلك وفق اتفاقيات ومعاهدات مشتركة.

توفير التكاليف

من البديهيات كذلك أنك عندما تنتقل لاستخدام البرمجيات مفتوحة المصدر فأول ميزة لديك هي توفير التكاليف. صحيحٌ أن كون البرمجيات مفتوحة المصدر لا يعني بالضرورة أنها مجانية، لكن في 99% من الحالات في الواقع هي كذلك.

ستتخلص من الحاجة لشراء تراخيص البرمجيات والدفع لها سنويًا، وهو ما سيوفر على الدولة عشرات ومئات الملايين من الدولارات كل سنة. يمكن لاحقًا استخدام هذه المبالغ لتحسين قطاعات التعليم والطب والخدمات الاجتماعية بدلًا من صرفها على برمجيات لا تسمن ولا تغني من جوع.

بعض الشركات بدأت تنتقل تدريجيًا لاستخدام نموذج “البرامج كخدمة” (Software as a service) أو ما يعرف بـSaaS، حيث أن المستخدم هنا لا يدفع سعر الرخصة مرة واحدة بل عليه أن يدفع تكلفة اشتراك شهرية (مبلغ مثل 5$ أو 10$ أو 20$… حسب البرنامج) هكذا إلى الأبد أثناء استخدامه للبرنامج. وهذا بالطبع غبن نحن في غنىً عنه.

خاتمة

رأينا كيف أن استخدام البرمجيات مفتوحة المصدر ليس مطلوبًا فقط على مستوى الأفراد، بل هو على مستوى الدول والحكومات أوكد منه وأحوج. ذلك أن الدول والحكومات التي التي تدير البلاد وتضع بيانات المواطنين وأموالهم ومعلوماتهم وبياناتهم تحت تصرف ووصول تلك الشركات الغربية الخارجية، وبالتالي توطين التقنية عبر استخدام البرمجيات مفتوحة المصدر مطلب أممي وليس فردي فقط.