تصرف الحكومات المليارات على البرمجيات الاحتكارية بدلًا من المصدر المفتوح

في عالم البرمجيات وعند صدور إصدارٍ جديد من برنامجٍ ما، فما يشتريه المستخدمون عادةً آنذاك ليس البرنامج كله، بل ما يُعرف برخصة الاستخدام (License Agreement) التي تؤهلهم لفعل أشياء محدودة فقط بتلك البرمجيات التي اشتروها، فلا يمكنهم مثلًا نسخ أو تعديل أو رؤية الشفرة المصدرية لتلك البرامج، وهو الفرق الرئيسي بين البرمجيات الاحتكارية والبرمجيات الحرة والمفتوحة المصدر (Open Source Software).

من المحزن والمُزعج جدًا أنه في القرن الحادي والعشرين ما تزال الحكومات حول العالم تدفع المليارات من الدولارات سنويًا لقاء البرمجيات؛ إنه محزنٌ أكثر لأنهم لا يدفعون لقاء البرمجيات في الواقع، بل ما يدفعون لقاءه هو مجرد رخصة استخدام لتلك البرامج بطريقة معينة سنويًا. الآن افرض أنك كنت تمثل دولةً تمتلك ملايين الأجهزة، هل يمكنك تخيّل كميات إنفاق الأموال حول العالم لجعل هذه الأجهزة تعمل؟

الأهم من ذلك هو أنك تدفع نفس المبلغ من المال السنة وراء السنة. بينما توفّر لك البرمجيات الحرة الحريات الأربع: حرية قراءة ونسخ وتوزيع ومشاركة البرمجيات بأي طريقةٍ تريدها.

قرار استخدام البرمجيات الاحتكارية بدلًا من البرمجيات الحرة على أجهزة الدولة هو قرارٌ خاطئ تقوم به الكثير من الحكومات حول العالم. إننا نخسر كميات هائلة من الأموال التي كان يمكن أن تذهب لقطاعات الصحة والتعليم والبنية التحتية عندما نستخدم البرمجيات الاحتكارية بدلًا من البرمجيات الحرة أو مفتوحة المصدر.

والأهم من ذلك هو أن المال الذاهب للدفع لقاء البرمجيات الاحتكارية والدعم الفني الخاص بها كان يمكن استثماره لتطوير البدائل مفتوحة المصدر؛ بدلًا من صرف 50 مليون دولار سنويًا من أجل تراخيص مايكروسوفت أوفيس لأن البديل المفتوح ليبر أوفيس ليس جيدًا بصورة كافية؛ لما لا نستثمر 25 مليون دولار في ليبر أوفيس نفسه لمرة واحدة لتحسينه وإصلاح المشاكل التي نعاني منها؟ البنية التحتية التقنية للدولة ستتطور إذا تحولت ليس فقط إلى مجرد مستخدم بل مطوّر للبرمجيات الحرة، والبرمجيات الحرة وحدها من تسمح لك بالقيام بذلك.

بحثنا وراء التقارير المالية حول الإنفاق الحكومي على القطاع التقني حول العالم، واكتشفنا أن الأموال التي تنفقها هذه الحكومات على البرمجيات الاحتكارية هائلة للغاية، ومعظمها ليس في الواقع لقاء البرمجيات ذاتها لكن من أجل الدعم الفني المحيط بتلك البرمجيات.

إنها معضلة، لأن هذا الإنفاق لن ينتهي. تزعم الحكومات وجود مشاكل في البرمجيات المفتوحة تمنعها من الانتقال إليها، ومن وراء هذه المزاعم تبقى تلك الحكومات تدفع الملايين والملايين من الدولارات كل سنة ويبقون يفعلون ذلك إلى اللانهائية؛ لأنه ليس لديهم أي خطة للتحول إلى البرمجيات المفتوحة والبدائل المُطوّرة محليًا.

نستعرض في تقريرنا هذا بعض الأمثلة على هذا الإنفاق الحكومي على البرمجيات المغلقة حول العالم.

أمثلة على إنفاق الحكومات على البرمجيات

الحكومة الأسترالية

أشارت تقارير سابقة إلى أن الحكومة الأسترالية أنفقت ما مجموعه 364 مليون دولار أسترالي فقط على عقود مايكروسوفت بين 2013م و2016م. تضمنت هذه العقود خدمات الدعم الفني وتراخيص البرمجيات وبعضًا من اللوجستيات الأخرى التي توفّرها مايكروسوفت عمومًا.

ولاستكشاف المزيد من التفاصيل ذهبنا إلى التقارير الرسمية حول الإنفاق الحكومي لأستراليا لسنتيّ 2017م و2018م. وأظهر هذا التقرير أنه خلال فترة سنة واحدة فقط، صرفت الحكومة الأسترالية:

  • 136 مليون دولار أسترالي على عقود مايكروسوفت.
  • 719 مليون دولار أسترالي على عقود شركة SAP.
  • 333 مليون دولار أسترالي على عقود شركة أوراكل.
  • 87 مليون دولار على عقود شركة VMWare.

وبالمجموع، أنفقت الحكومة الأسترالية 1.27 مليار دولار أسترالي فقط على عقود البرمجيات من هذه الشركة الأربع بين فترتي 2017م و2018م.

الحكومة المصرية

الحالة المصرية مثيرة للاهتمام لأنها تظهر كيف أن نوع البرمجيات التي تختارها الحكومات سيؤثر جدًا على الدولة عمومًا في الأوقات الصعبة التي قد تكون تعيشها.

في 2012م وبعد الثورة المصرية والمشاكل الاقتصادية التي تبعتها والتي كانت تواجهها الدولة، أعلنت الحكومة آنذاك أنها ستدفع 43 مليون دولار من أجل عقود مايكروسوفت ويندوز ومايكروسوفت أوفيس لـ150 ألف جهاز في مصر.

قد لا تكون 43 مليون دولار مبلغًا كبيرًا بالنسبة لك أو بالمقارنة مع الدول الأخرى، لكنها مبلغ ضخم بالنسبة لبلدٍ فقير كمصر أن يُدفع لقاء تراخيص برمجيات من أجل 150 ألف جهاز فقط. حاول الكثير من النشطاء آنذاك ثني الحكومة المصرية عن عملية الشراء هذه وإقناعهم بالتحول إلى البرمجيات الحرة ولكنهم فشلوا. قال النشطاء أن ذلك المال كان يمكن أن يُصرف على قضايا أكثر أهمية للناس بدلًا من تراخيص البرمجيات والدعم الفني لنظام تشغيل وبرامج مكتبية.

لاحظ كذلك أننا لم نستطع العثور على أي تقارير أو موارد أخرى حول الإنفاق الحكومي المصري على البرمجيات من الشركات الأخرى؛ هذه نفقات عقود برمجيات مع شركة واحدة فقط هي مايكروسوفت وقبل 9 سنوات.

الحكومة الأمريكية

الحكومة الفيدرالية الأمريكية هي أكبر مُنفق على البرمجيات حول العالم. في سنة 2017م أنفقت الحكومة الفيدرالية مبلغ 350 مليون دولار على عقود شركة مايكروسوفت وحدها:

أنفقت الحكومة الفيدرالية كذلك:

  • 1.13 مليار دولار على عقود IBM.
  • 70 مليون دولار على عقود أوراكل.
  • 35 مليون دولار على عقود Capgemini.
  • 27 مليون دولار على عقود SAP.

وكل هذا الإنفاق في فترة سنة واحدة فقط.

لاحظ كذلك أن هذا الإنفاق هو من قبل الحكومة الفيدرالية وحدها فقط.

بالإضافة إلى ذلك أنفقت وزارة الدفاع الأمريكية وحدها مبلغ 1.5 مليار دولار على عقود مايكروسوفت بين سنتيّ 2000م و2017م.

ما هو البديل؟

حاول نشطاء البرمجيات المفتوحة لعقود إقناع الحكومات بالتحول إليها بدلًا من استعمال البرمجيات الاحتكارية، لكن معظم هذه الجهود باء بالفشل، حيث تُظهر الحكومات معارضة كبيرة لعمليات التحول هذه. وعلى النقيض من ذلك أظهرت تجارب بعض الحكومات في البرازيل وإسبانيا وروسيا نجاحًا في التحول إلى البرمجيات المفتوحة.

تقول الحكومات غالبًا أنها لا تمتلك الخبرة التقنية الكافية لإجراء هذا التحول، ويقولون كذلك أنه لا يوجد أحدٌ ليوفر لهم الدعم التقني في حال احتاجوه (مثلًا ليبر أوفيس يأتي دون دعم فني)، وحينها تكون النتيجة الكسولة:

فلندفع بضع ملايين من جيوبنا ونرتاح

لكن كلا هاتين المشكلتين يمكن حلهما عبر تدريب متخصصين تقنيين محليين في البرمجيات المطلوبة بهدف نقل الدولة إلى البرمجيات المفتوحة. فمثلًا دولة تريد استخدام أوبونتو وليبر أوفيس على كافة أجهزتها يمكنها أن تبدأ حملة بميزانية معينة لتعليم بعض طلاب الهندسة طريقة تطوير وبناء هذه البرمجيات واستخدامها، وبعد بضع سنين سيكون هؤلاء الناس جاهزين لإجراء هذا التحوّل العملاق بأنفسهم.

وبمجرد إجراء هذا التحول فإن الدول ستكون قادرة على الاعتماد على خبرتها التقنية المحلية بدلًا من الشركات الأجنبية الخارجية لتوفير البرمجيات والدعم الفني لهم.

ستكون هذه ضربة ثلاثية، لأنه:

  1. أولًا هي عملية توفر على الدولة المال، بل أطنان منه في الواقع.
  2. وثانيًا توفّر مئات وآلاف وظائف العمل للكثير من الناس في هذه الدول بالتخصصات المرتبطة؛ ويمكن لهذه الدولة أن تبيع الدعم الفني والخبرة التقنية للدول الأخرى بمجرد أن تمتلك هذه الفئة الخبيرة من الناس.
  3. وثالثًا لأنها توطّن قطاع البرمجيات في البلاد، وتجعله خاليًا من الاعتماد على جهات أجنبية في البنية التحتية الحساسة.

تستعمل الحكومات عادةً مشكلة عدم توفر الأموال لإجراء هذا النوع من التحولات، لكن الأرقام تخبرنا غير ذلك. هذه الحكومات التي تدفع سنويًا مليار دولار لا يمكن أن يكون لديها مشكلة في وضع خطة خمسية بميزانية معينة للانتقال التدريجي للبرمجيات المفتوحة؛ فإن كان يمكنك دفع مليار دولار كل سنة لقاء البرمجيات فحينها يمكنك بالطبع دفع 100 مليون دولار على امتداد السنوات لبناء البنية التحتية التقنية التي تحتاجها للانتقال إلى البرمجيات المفتوحة.

والواقع العربي في هذه المسألة مؤسف؛ الكثير من صنّاع القرار تدعوهم مايكروسوفت لندوات وورشات تدريبية في باريس وغيرها، فيرجع المسؤول العربي إلى بلده وهو لا يرى أمامه سوى منتجات مايكروسوفت وأشباهها من الشركات الأجنبية؛ وكل ما عدى ذلك هو “لهو أولاد صغار”.

يبيع المسؤول العربي البنية التحتية التقنية لبلاده فقط من أجل حفنة من المال والمنافع التي يحصل عليها من هذه الشركات.

ماذا علينا نحن الناس أن نفعل؟

  1. حاول الضغط على الحكومة في بلدك للانتقال إلى البرمجيات المفتوحة بدلًا من الاحتكارية.
  2. انشر المشكلة الخفية التي تعيشها هذه البلدان من هذا الصرف والتبذير الهائل كل سنة من أموال الضرائب لقاء أمور كان يمكن توفيرها محليًا.
  3. ادعم البرمجيات المفتوحة واستخدامها حول العالم.
  4. اعمل على توطين البرمجيات الحرة ونشرها في بلدك؛ عبر مبادرات ومنظمات ومؤسسات تعلّم الخبراء طريقة استخدامها.
  5. حارب الفساد في بلادك؛ وافضح أي مسؤول يقدّم مصلحته الشخصية على مصلحة بلاده.

خاتمة

نأمل أننا نجحنا في تسليط الضوء على معضلة البرمجيات وتراخيصها في مختلف الدول حول العالم. إنه أمرٌ مؤسف أن تصرف الحكومات كل تلك الأموال لقاء تراخيص استخدام نظام تشغيل وحزم مكتبية وغير ذلك من البرامج بدلًا من أن تمتلك البنية التحتية التقنية لتطور ما تحتاجه بنفسها.

إن البرمجيات المفتوحة تخدم جميع الأهداف السيادية للدول والحكومات؛ فعبر استخدامها تصبح مسؤولًا بنفسك عن برمجياتك وقرارك التقني بدلًا من الاعتماد على الشركات الأجنبية الخارجية، كما أنك تتخلص من أذرع تلك الشركات داخل بنيتك التحتية بسبب اعتمادك على البرمجيات التي ينتجونها.