الويب العربي بحاجة للنشر المنظم والجاد وليس العشوائي

يعاني الويب العربي من مشاكل كثيرة، إلى درجةٍ تجعل الباحثين التقنيين العرب أنفسهم لا يبحثون باللغة العربية في محركات البحث لأنهم يعلمون أنهم لن يجدوا أي نتائج، فيتجهون للبحث باللغات الأجنبية الأخرى.

لن نتكلم اليوم عن مشاكل الويب العربي الكثيرة من نقص الموارد والمنصات الأساسية والمستثمرين وما إلى ذلك، لكن نريد أن ننوه إلى مشكلة مهمة من طرف صنّاع المحتوى؛ ألا وهي النشر العشوائي غير المنظم.

لاحظ أنه في شتى المجالات التي ينشر فيها صنّاع الويب العربي، يكون النشر عشوائيًا. سواءٌ كان مجال المحتوى هو الهندسة أو التقنية أو الصناعة أو التجارة أو الزراعة… هناك فكرة غريبة لدى صنّاع المحتوى وهي أنه عليهم نشر المحتوى إلى اللانهائية؛ لا يوجد هدف معين يحققونه وإنما ببساطة هناك موضوع ينشرون عنه باستمرار.

في مقابل ذلك، تمتلك مواقع المحتوى الرصينة التي تهدف إلى إجراء تغيير حقيقي على الواقع خطة محتوى واضحة تمشي عليها وتسعى لتحقيقها. ليس ضروريًا أن تكون شاملة وتخطط لكامل المحتوى المنشور على امتداد سنة، لكن على الأقل أن تكون المواضيع التي تريد تغطيتها واضحة ومعروفة ثم تنتهي عن الحديث عنها ولا تعود للنشر اللانهائي عن نفس الموضوع.

تحديد مشاكل المحتوى العشوائي وغير المنظم

هناك نوعان أساسيان للمحتوى:

  • محتوى مفيد دائم الخضرة (Evergreen Content): محتوى لا يبلى مع الزمن بل يبقى مُحدثًا وقابلًا للتطبيق في مختلف الأوقات، حيث يمكن للقارئ أن يستفيد منه بغض النظر عن تاريخ نشر المقال. هناك طرق متعددة لعرض هذا المحتوى كذلك وتسهيل الوصول إليه منها الجيد والسيء.
  • محتوى ماجَرَيَاتي (من كتاب الماجريات): مقالات إخبارية عن المجال بها معلومة محددة بوقت معلوم، وبعد أن يقرأ القارئ المقال لن يعود إليه مرة أخرى فليس هناك شيء آخر ليستفيد منه. الماجريات منها ذو القيمة كذلك ومنها المنخفض؛ فأخبار تغيير شعارات الشركات مثلًا ليست بنفس أهمية وقيمة أخبار شبكات الجيل الخامس.

أنت كصانع محتوى، غالبًا لديك اهتمام معين وتريد كتابة مختلف المقالات عنه ونشرها للناس. هذا جميل، لكن عليك بالبداية تحديد هدفك: هل أنت صانع أخبار كالجزيرة والعربية وسكاينيوز وتريد أن تغطي الأخبار عن مجالك لشريحة كبيرة من الناس المهتمين بالمجال؟ أم تريد تطوير وتنمية هذا المجال وجذب المهتمين إليه وتعليمهم وإفادتهم؟

غالبًا ما تكون إجابة صنّاع المحتوى الخيار الثاني، لكن الغريب بالموضوع هو أنهم يستعملون أسلوب النشر الخاص بالنوع الأول.

فتجد صاحب الموقع يفتح مدونة عن الزراعة أو التقنية أو غير ذلك من المجالات، ثم لا ينشر فيها سوى الأخبار المتعلقة بذاك المجال، وحتى إن نشر مقالات تعليمية مفيدة فهو ينشرها ثم تضيع في الأرشيفات دون تنظيم أو اعتبار لسهولة الوصول.

فعندما تفتح الصفحة الرئيسية لمعظم مواقع المحتوى العربية، لا تجد سوى مجموعة من التدوينات العشوائية المرمية أمامك وبضع قوائم لاستعراض المقالات حسب التصنيفات أو الوسوم، وعندما تضغط على أحد هذه التصنيفات ستجد صفحة أخرى من التدوينات العشوائية المرمية أمامك؛ بعضها منشورٌ قبل الآخر وبعضها من المفترض أن تقرأه قبل الآخر، ولكن هذا لن يحصل فأنت تراها غالبًا حسب ترتيب النشر المعكوس.

فقد تجد موقعًا لديه مثلًا 2000 مقالة منشورة عن تطوير التطبيقات ولديه مثلًا 100 مقال عن تطوير تطبيقات آيفون، لكنه لن يعرض لك في صفحته الرئيسية سوى رابطٍ لتصنيف “تطبيقات آيفون” وعند النقر عليه فسيأخذك إلى صفحة تعرض لك آخر التدوينات المنشورة في ذاك التصنيف، بدلًا من سلسلة تدريجية تأخذ بيدك خطوة بخطوة وتعرض لك التدوينات بشكلها وترتيبها الصحيح.

مواقع مثل الجزيرة أو nytimes أو The Guardian وغيرها هي مواقع إخبارية؛ وظيفتها أن تتخصص بالماجريات وتنشرها للمهتمين والمختصين ليعلموا ما الذي يجري حول العالم فيما يتعلق بذاك التخصص أو المجال. لكن المواقع الأخرى المفترض أنها مواقع محتوى تهدف لإفادة القارئ والاستمرار بإفادته وليس تقديم الأخبار والتحليلات له فقط.

المشكلة هي أنه بما أن هذه المواقع هي المواقع الأكثر شهرةً على الإنترنت، غالبًا ما يأتي صنّاع المحتوى الجدد ويحاولون تقليدها، فيفشلون في ذلك ببساطة لأنهم لا يمتلكون لا نفس الإمكانيات ولا نفس الأهداف والتوجهات.

كثيرًا ما رأينا على امتداد أكثر من 11 سنة من متابعة الويب العربي مشاريع لمدونات تقنية أو هندسية، أصحابها قمّة في تخصصاتهم من ناحية المعرفة ولكنهم يفشلون فشلًا ذريعًا في إنشاء مواقع محتوى تجذب المهتمين والراغبين بالتعلم في مجالاتهم.

إذًا لدينا مشكلتان لنحددهما هنا:

  1. عدم نشر المحتوى الصحيح ولا معرفة شكله وأنواعه.
  2. حتى عند نشر المحتوى الجيد، صنّاع المحتوى لا يعرفون كيف يعرضونه بصورة جيدة للناس تمكّنهم من الوصول إليه متى ما احتاجوا.

ملامح وعلامات للمحتوى المنظم والجاد

تبدأ مواقع المحتوى التي لديها أهدف معينة تريد تحقيقها وليس فقط تحقيق الزيارات والأرباح بإنشاء خطة محتوى؛ خطة المحتوى هي ببساطة المواضيع التي ستتناولها هذه المنصة وإلى أي درجة تريد تغطيتها وما الموضوعات الفرعية التي ستتحدث عنها وما الأسلوب المتبع في النشر.

فمثلًا إن كان الموقع يتخصص في برمجة تطبيقات الهاتف المحمول، فحينها ستكون “تطبيقات أندرويد” و”تطبيقات iOS” و”التطبيقات الهجينة” ثلاثة تصنيفات أساسية يمكن الحديث عنها وشرحها في هذا الموقع (وبالطبع هناك تصنيفات أخرى)، وتحت كل تصنيف يمكن عمل عدة سلاسل محتوى مختلفة.

سلسلة المحتوى هي ببساطة مجموعة من المقالات أو الصفحات المرتبطة ببعضها ارتباطًا تدريجيًا؛ فتكون هناك مقالات تقديمية ومقالات ابتدائية وبعدها يرتفع المستوى شيئًا فشيئًا إلى أن تكتمل المعرفة المطلوبة لدى القارئ عند وصوله لآخر مقال في السلسلة.

ميزة هذا الأسلوب بالنشر هو أنه يشبه المساقات (Courses)؛ فلا تفتح وتقرأ أي مقال عشوائي يظهر لك على الموقع، بل تقرأ محتوى هذا الموقع بصورة منظمة وبالتدريج حسب السلاسل المحددة، وهو ما سيحقق أفضل استفادة للقارئ بدلًا من تقيّؤ كامل المحتوى في صفحات الأرشيف أو الصفحة الرئيسية.

انظر مثلًا صفحة “Full Linux Guide” التي أنشأناها لموقعنا باللغة الإنجليزية حول البدء باستخدام لينكس والبرمجيات مفتوحة المصدر، وانظر إلى تقسيم المحتوى وطريقة عرضه لتفهم المقصود. بعد أن انتهينا من هذه السلسلة لم نعد ننشر أي مقالات إطلاقًا عن هذا الموضوع، لأننا قلنا بالفعل كل ما لدينا لنقوله.

سيغني هذا القارئ عن البحث في أرشيف موقعك للوصول إلى المقالات التي يريدها، فإن كان مهتمًا مثلًا بإنشاء المواقع الإلكترونية فبدلًا من أن يبحث عن “إنشاء موقع إلكتروني” في مربع البحث الخاص بموقعك، يمكنه أن يتصفح هذه السلسلة الجاهزة التي تعدها أنت له لتسهّل عليه الموضوع.

وميزته لك كصانع محتوى هو أنك لن تنشر إلى اللانهائية وما بعدها؛ فأنت عندما تمتلك خطة محتوى وتعرف الجوانب التي عليك شرحها وتغطيتها على موقعك فحينها ستنشر عنها وتتوقف عن ذلك عندما تكتمل. فبدلًا من نشر مقالات عن “برمجة أندرويد” إلى الأبد كلما سنح لك الوقت الأفضل هو أن تضع خطة محتوى لتنشر المقالات بالتدريج بعد أن تقسّمها لأقسام واضحة تريد شرحها.

وهكذا، بمجرد اكتمال قسم أو سلسلة محتوى تنتقل إلى السلسلة أو القسم الآخر، دون أن تعود لهذه السلسلة مرة أخرى (اللهم إلا لتحديثها في المستقبل كلما طرأت الحاجة).

الويب العربي بحاجة لموسوعات وليس مواقع عشوائية

لهذا نجد أن أكثر ما يحتاجه الويب العربي حاليًا هو الموسوعات، وليس مواقع المحتوى العشوائية.

ميزة الموسوعات أنها:

  • لا تتبع أسلوب النشر العشوائي للمقالات، بل المحتوى مقسّم افتراضيًا حسب المواضيع.
  • طريقة سير العمل فيها تجبرك على المحتوى الجاد والمنظم.
  • لا يوجد بها فكرة “نشر مقال”، بل هي صفحات محتوى تملؤها بالمعلومات متى ما أمكنك ذلك.
  • سهلة التعديل والتحرير والتحديث؛ فهي مصممة بالأساس لتكون محتوى دائم الخضرة.
  • سهلة للتحميل والنسخ الاحتياطي والمتابعة.
  • تدعم ميزات المشاركة في التحرير والكتابة افتراضيًا لأكثر من كاتب.

أشهر أنظمة إدارة المحتوى للموسوعات على الويب هي DokuWiki وMediaWiki، وننصح شخصيًا بدوكوويكي فهي أكثر سلاسةً وسهولةً للاستخدام والتعامل.

يحتاج الويب العربي بشدة إلى الموسوعات في مختلف المجالات التقني منها وغير التقني. وليس هذا غريبًا فجوجل نفسها كمحرّك بحث عملاق يعطي ويكيبيديا النتيجة الأولى دومًا في الكثير من نتائج البحث، كما يعطي موسوعات أخرى مثل موضوع وWikiHow أولوية أكبر كذلك، لأنها مواقع محتوى تفيد الزوار أكثر من مواقع المحتوى العشوائية التي تنشر مقالات غير منظمة. (وإن كانت تستعمل أساليب سوداء لتصدّر النتائج كشراء الروابط وغير ذلك).

طريقة العرض مهمة جدًا أكثر مما تتصور

ليس من المفيد أن تمتلك خطة محتوى رصينة، ثم تعرض ذاك المحتوى بشكل غير منظم للزوار.

أي زائر قد يصل لموقعك إما عن طريق البحث عن كلمة مفتاحية معينة في محركات البحث أو عن طريق استعراض الصفحة الرئيسية لموقعك. في كلتا الحالتين يجب أن تعلمه أن هذا المقال الذي يقرأه هو جزء من ضمن سلسلة محتوى أكبر تغطي كل ما يحتاجه عن موضوعٍ معين.

فإذا وصلك إلى مقال عن “شرح مفاهيم التشفير في شبكات الجيل الخامس” فعليك أن تضع ضمن المقال إشاراتٍ وعلامات أنه هناك سلسلة مقالات أكبر عن شبكات الجيل الخامس على موقعك، وأنه هناك مقالات ابتدائية عليه أن يقرأها قبل أن يقرأ هذا المقال.

للأسف ما يفعله أصحاب المواقع العربية نقيض ذلك؛ ينشرون محتوىً عالي الجودة، ثم لا يعود بالإمكان الوصول إلى ذلك المحتوى مرة أخرى على مواقعهم إلا من محركات البحث، ببساطة لأنهم لا يعرضونه على شكل سلاسل متصلة، فيضيع كل ذاك المجهود أدراج الرياح ولا يسمع أحدٌ به.

خاتمة

نأمل أن هذا سيغير من طريقة إطلاق صنّاع الويب العربي لمشاريع المحتوى المستقبلية الخاصة بهم.

إنه من المحزن أن ترى إنسانًا متخصصًا قادرًا على إفادة الكثير من الناس يذهب تعبه أدراج الرياح دون أن يشعر، فقط لأنه لا يمتلك خطة محتوى أو لا يعرف كيف ينشر عن تلك المواضيع والتخصصات بالضبط.

نأمل كذلك أن تنتشر ثقافة الموسوعات في الويب العربي، فهي أفضل بكثير من مواقع النشر العشوائية وأفضل للقرّاء والكتّاب على حدٍ سواء على الأمد البعيد.