أطلق ساتوشي ناكاموتو سنة 2009م بروتوكول سلسلة الكتل (Blockchain) مع عملة بتكوين في ورقته البحثية الشهيرة، مستندًا إلى مبدأ النظير للنظير (Peer to Peer) لتأكيد المعاملات المالية الرقمية. واليوم، هناك حوالي 2.5 تريليون دولار من الأموال التي تتدفق في مختلف العملات الرقمية التي تستعمل نفس البروتوكول.
نعم، 2500 مليار دولار من الأموال تتدفق حوّل العالم لتغيّر حياة الكثير من الناس – نحو الأفضل أو الأسوء – فقط بسبب ورقة بحثية عن بروتوكول برمجي نشرها شخصُ ما على الإنترنت ذلك العام. النظام المالي المصرفي التقليدي لكامل النظام العالمي يشعر بالخطر بسبب التطورات السريعة في العملات الرقمية.
فيسبوك الذي طوّره مارك زوكيربيرغ سنة 2006م كطالب جامعي، وواتساب وتويتر وأوبر ومايكروسوفت ومنتجاتها وغيرها الكثير جدًا من الخدمات التي تشكّل لوحدها سِمة العالم الحديث اليوم… جميعها المشترك بينها هو شيء واحد: الإلمام بعلوم الحاسوب واستخدامها استخدامًا صحيحًا لتحقيق الغايات المطلوبة.
لا تتوقف علوم الحاسوب هنا، فعلوم الحاسوب غير منحصرة بالخدمات الرقمية أو مواقع وتطبيقات الإنترنت بل لها استخدامات كثيرة جدًا؛ تصنيع الهواتف والثلاجات والسيارات وتصميم كل شيء بحاجة لتصميم… بل تصنيع المصانع نفسها التي وظيفتها تصنيع هذه الأمور، كلها تتم عن طريق برامج حاسوبية قائمة على مبادئ علوم الحاسوب.
وفي الصراع الجاري حاليًا بين فصائل المقاومة الفلسطينية والكيان الإسرائيلي، لا تغيب القبّة الحديدية عن المشهد محاولةً التصدي لصواريخ المقاومة. وما لا يعرفه الكثير من الناس هو أن سنينًا من التطوير والبحث المستمر في الأنظمة الحاسوبية وأجهزة التحسس والشبكات والنقل والتحكّم عن بعد قد صُرفت في تطوير هذا النظام الدفاعي العسكري الذي يُكلّف عدة مليارات دولار، وأنها كلها ما هي إلا مجرد حسنات لعلوم الحاسوب المختلفة مدموجةً مع العلوم الأخرى.
ليست علوم الحاسوب حلًا سحريًا لكل مشاكل الأمة، وهناك الكثير من القضايا الاجتماعية والسياسية والدينية التي بحاجة لتنظيرٍ وتحليلٍ طويل قبل الخلاص. لكن عند ذكر الأسباب المادية التي نحن مأمورون بالأخذ بها لا بد أن تكون علوم الحاسوب في رأس القائمة، فهذه العلوم هي محرّكات العلوم الأخرى في هذا العصر، ولا يمكن لأي أمة أن تنهض وتزدهر دونها.
إن علوم الحاسوب ليست ما يظنه الكثير من طلبة الجامعات؛ مجرد مبادئ تصميم الخوارزميات مع البرمجة وبضع مساقات (Courses) أخرى لتكمّلها، فهذا هو قشرة هذه العلوم لا أكثر.
تشمل علوم الحاسوب المتقدمة شبكات الجيل الخامس، وعلوم التشفير والتعمية، والشبكات المركبية، والذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة، وتحليل الأنماط وتقنيات التعرّف على الوجوه، والخوارزميات التطورية والتحسين الاندماجي، والأنظمة المضمّنة… والكثير جدًا من العلوم المتقدمة التي تُستخدم في كافة القطاعات الحيوية في الدول الحديثة. وكما ترى، هي أكثر بكثير من مجرد البرمجة مع الخوارزميات.
وللأسف يتخرج معظم الطلاب العرب والمسلمين من الجامعات العربية دون أن يدركوا ذلك، فيظنون أن مجرد تخرجهم كـ”مهندسين” كافٍ للحصول على فرصة عمل لا أكثر، غير مبالين بالتقدم أكثر في المجال أو التعمّق فيه لتقديم فائدة حقيقية للأمة.
تنشغل في أثناء ذلك المواقع العربية الأخرى بتغطية أخبار الهواتف الذكية، وأحدث منتجات وأخبار الشركات الأجنبية، وتغيير شعارات الخدمات الشهيرة ثم تجد كثيرًا من العرب والمسلمين يظنون أن هذه هي التكنولوجيا ولا شيء آخر بعدها.
لأجل هذا افتتحنا حوسبة؛ لتكون منصةً عالية الجودة لنشر المحتوى المتقدم والمتخصص عن علوم الحاسوب الذي نراه أنه سيفيد أمتنا. ولأجل هذا ندعو شباب هذه الأمة من طلاب وخريجين ومهتمين بالمجال أن يتخصصوا أكثر في هذه العلوم ويساهموا في مشاريع وأبحاث تجعل هناك صناعة حقيقية لهذه العلوم في الأمة.
هي كذلك!، لكن الوقود الذي يحرك أي عمل يحتاج وقتًا وجهدًا هو المال؛ وما لم يرتقي الأغنياء بسبل استثمارهم للمال وينعتقوا من استثماراتهم الجبانة ذات المصلحة الذاتية المحدودة، وينظروا بطموحهم إلى ما هو أوسع من جني المال المحض؛ فإن عوالم الحاسوب والصناعة المتقدمة والبحوث لن تتقدم إلا قليلًا، وسيظل جلها حبرًا على ورق. ولذا نحن بحاجة إلى من يفتح آذانهم الغافلة عن سبل تطوير الأمة بمبادرات توعوية تسهم في رفع الإدراك العام بالضرورة الملحة بالاستثمار في التطوير والبحث؛ وهو على خطورته، ذو عائد كبير ومجزي، إن ترك رأس المال تخوفه وتشجع لما فيه مصلحته هو ومصلحة البلاد والعباد.